الزواج والبتولية

16/12/2013 01:41

بين ”ليس جيدًا أن يكون آدم وحده“, و”حسن للرجل ألا يمس امرأة“ وفكر الله

 

مع انتشار الضعف، وغياب عمق التعليم الصحيح، تسللت أفكار وتعاليم مصدرها الغنوسية إلى داخل المسيحية، تسللت أولاً إلى الحياة، ثم حاولت أن تلوث التعليم المسيحي السليم.

والغنوسية هي بدعة قامت على تنجيس المادة والعالم المادي واعتبار كل ما من المادة هو نجاسة (مثل الجسد والطعام والجنس والاحتياجات)، ووضعها في حالة عداء للروح والله.

لقد حاربت الكنيسة في القرون الأولى هذا الكلام وردت عليه بحق الإنجيل، الذي يؤكد حلول المسيح في الجسد،  وتقديس لاهوت الرب للجسد وكل حركاته، من أكل وشرب وزواج وجنس، وكلمات الكتاب المقدس التي تبشر المولودين من الله بطهارة كل ما يفعلوه.

كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِراً، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضاً وَضَمِيرُهُمْ. (تي  1 : 15)

ومن هذا المنطلق، ومع وجود الضعف، وغياب استعلانات عمل المسيح وصليبه وقيامته في النفس البشرية، وما أعطاه لنا بالتجسد، دخلت في المسيحية تدريجيًا اتجاهات تترفع عن الزواج، وتنظر له نظرة دونية سفلية، وتتعامل معه وكأنه (نجاسة حلال)، أو (شر سمح به الله)، وكنتيجة، امتد الأمر لتعظيم مكانة البتولية والتوحد والتقشف عن الحياة في العالم، وبدأوا يحضرون الأدلة والبراهين على ذلك الفكر الغنوسي الأصل، سواء من الكتاب المقدس أو قصص المتوحدين والنساك والعباد، مع أنهم هؤلاء لم يتركوا العالم والزواج لنجاسته، لكن لأن لهم دعوة مختلفة دعاهم الله لها.

لقد أعلن الله فكره بمنتهى الوضوح والقوة، في أن يجعل في علاقة الرجل  (الرأس) بالمرأة في روح الحب، هي صورة لعلاقة الآب (الرأس) بالابن في الروح القدس، وكما أنجبت علاقة الثالوث ابناء كثيرين للمجد (عب  2 :  10)، كان فكر الله أن ينجب الإنسان أيضًا أبناء كثيرين لمجد الله الآب

وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الانْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ وَعَلَى كُلِّ الارْضِ وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الارْضِ». فَخَلَقَ اللهُ الانْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ (الثالوث آب وابن في الروح، فالثالوث علاقة بين طرفين وليس ثلاثة أطراف). ذَكَرا وَانْثَى خَلَقَهُمْ (طرفين يمثلا الثالوث في روح الحب).وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «اثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلاوا الارْضَ وَاخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الارْضِ». (تك 1: 26 – 28)

وحين سقط الإنسان، انسحب الحب وحل محله الشهوة والأنانية، وتنجس كل شيء وفقد كل شيء طهره  (تي  1 :  15)، واحتل الجنس المقدمة في تلك الأمور. وبعد السقوط، جاء المسيح ليصلح كل ذلك، وليعيد الإنسان لمكانتة الأولى.

يقول الأب متى المسكين:

بدأ الله يعمل على إعادة خلقة الإنسان ولكن على الأساس الذي لا يمكن أن يخطئ فيه الإنسان للموت، أو يعصاه أو يموت أو يفترق عنه، فهذه المرة صمم أن يخلقه، لا على صورته كشبهه فقط، بل من روحه ومن جسد ابنه بحال قيامته من بين الأموات خلقه (الأب متى المسكين – كتاب الخلقة الجديدة للإنسان في الإيمان المسيحي –الجزء الأول – ص 10)

واليوم نحن نعاني ونئن، لكي تفرح الكنيسة وتقبل نعمة المسيح، وترفع النير الثقيل الموضوع على نفسية أولادها، الذين يتوقون للحياة للرب وسط أسرة نقية تمجد الله في العالم، دون أن يكون العالم فيهم، لكن تلميح التعاليم الغنوسية المتسللة للكنيسة تشير بخفاء أن ذلك  نجاسة، وأنه يوجد خطأ في الزواج والحياة في العالم، وتوحي أن المكان الوحيد لمعرفة الله هو البرية، وعدم الزواج هو الطريق (وأرفض أن اسميها بتولية، فكل نفس عرفت المسيح هي بتول).

ويحاول الكثيرون -عن جهل أو عن كبرياء- إثبات الغنوسية ونجاسة الزواج من الكتاب المقدس، والجزء الوحيد في الكتاب المقدس كله الذي يبدو وكأنه يعضد ذلك الفكر، هو رسالة كورنثوس الأولي، والتي تحتوي علي أيات وأفكار شائكة، نورد منها على سبيل المثال التالي:

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأُمُورِ الَّتِي كَتَبْتُمْ لِي عَنْهَا فَحَسَنٌ لِلرَّجُلِ أَنْ لاَ يَمَسَّ امْرَأَةً. (1كو 7 : 1)
وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُ فَيَهْتَمُّ فِي مَا لِلْعَالَمِ كَيْفَ يُرْضِي امْرَأَتَهُ.وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجَةُ فَتَهْتَمُّ فِي مَا لِلْعَالَمِ كَيْفَ تُرْضِي رَجُلَهَا. (1كو 7 : 33 – 34)
إِذاً مَنْ زَوَّجَ فَحَسَناً يَفْعَلُ وَمَنْ لاَ يُزَوِّجُ يَفْعَلُ أَحْسَنَ. (1كو 7 : 38)
وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَضْبِطُوا أَنْفُسَهُمْ فَلْيَتَزَوَّجُوا لأَنَّ التَّزَوُّجَ أَصْلَحُ مِنَ التَّحَرُّقِ. (1كو 7 : 9)
  لاَ يَسْلِبْ أَحَدُكُمُ الآخَرَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوافَقَةٍ إِلَى حِينٍ لِكَيْ تَتَفَرَّغُوا لِلصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ ثُمَّ تَجْتَمِعُوا أَيْضاً مَعاً لِكَيْ لاَ يُجَرِّبَكُمُ الشَّيْطَانُ لِسَبَبِ عَدَمِ نَزَاهَتِكُمْ.(1كو 7 : 5)

إن تلك الأيات تربك الكثير من المستنيرين وأولاد الله الحقيقين، فهي بالحقيقية مربكة جدًا، وكل جهود الشراح والمفسرين المستنيرين تركزت على فهم الملابسات والظروف التي قيلت فيها تلك الأيات من ضيق واضطهاد وأسئلة لا نعرفها سُئلت منهم لبولس، ومحاولة الوصول لنتيجة أن كل تلك الأيات قيلت في ظروف خاصة ولا يمكن تطبيقها بصورة عامة.

كلها محاولات أمينة، لكنها معقدة ومبهمة وغير مؤكدة، لست أكتب لكي أعترض عليها، لكن لألفت النظر لما غاب عن أعين الكثيرين من فكر الله في الرسالة، والذي يحل كل غوامضها، ويحولها من رسالة مربكة، إلى رسالة مملؤة غنى واستعلانات، وخصوصاً، حين نجد أن الكثيرين يستخدمون تلك الآيات ليثبتوا تعارض الزواج مع حياة القداسة والصلاة والعفة.

فبعد أن قدم بولس الرسالة، وقبل أن يتكلم، وضح أساس لرسالته كالتالي:

  وَأَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَالٍ فِي الْمَسِيحِ،  سَقَيْتُكُمْ لَبَناً لاَ طَعَاماً لأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ تَسْتَطِيعُونَ بَلِ الآنَ أَيْضاً لاَ تَسْتَطِيعُونَ (1كو 3 : 1-2)

 وبعد  أن سرد رؤيته نحو أمور حياتهم وتفاصيلها، والتي كما أوضحنا، نرتبك أمامها ونشعر أنها ضد فكر الله، تكلم في النهاية القديس بولس قائلاً:

وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ الْكَامِلُ (أي المسيح) فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ.لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلَكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ. (1كو 13: 10 -11)

 مما سبق يتضح جيدًا، أن القديس بولس الرسول يعرف تمامًا ما يقول، وقد راعى وبشدة أن يبدأ كلامه وينهيه بهذه الأيات، وكأنه يفتح قوسين كبيرين، ثم يكتب رسالته كلها بينهما، يكلم فيهم الأطفال في المسيح، حديثي الايمان، الذين ولدوا من الروح، ولكنهم مازالوا في مرحلة الطفولة، كجسديين، حيث مازالت الذات تتحرك بحرية، والمسيح المولود داخل مزودهم الصغير مازال طفلاً، والضعف والشهوة  مازالتا أكثر قوة من المحبة والبذل، وأعتقد أن هذه المرحلة يعبر بها الجميع، فكثير جداً من المبادئ والأفكار الموجودة في هذه الرسالة، مكتوبة فقط للمؤمنين الصغار، وتتعارض في جوهرها مع عمق المسيحية الكاملة، التي تخاطب الإنسان الروحي لا الجسدي، وتهدف إلى أن تراه في ملء قامة المسيح.

من هذا المنطلق، بدأ بولس يكتب  رسالته، وهو مقيد بالمرحلة التي هم فيها، لا يستطيع أن يعطيهم الطعام الروحي القوي، المملوء محبة وبذل وتحليق في سماء الروحيات، بل اللبن الذي يتركز دوره في أن ينمي ذلك المولود الجديد، ويقويه، فيبطل ما للطفل من ضعف، وتنتهي هذه المرحلة حين يجئ الكامل (أي المسيح) كما أشار في آخر رسالته (1كو 13 : 10 – 11)

من هنا تنحل غوامض تلك الرسالة، وتكتسب كل كلمة في الرسالة معنًى عميقًا وجديدًا، فالأصح هو عدم الزواج إن كان الإنسان غير ناضج روحيًا، لأنه لن يستطع أن يدخل لملء العلاقة التي أرادها المسيح بين الزوجين، والتي تحتاج محبة لم يكتمل نضجها بعد في الطفولية، ولن يستطع الطرفان أن يختبرا البذل والمحبة، فمازال الأخذ والشهوة  لهما مساحة أكبر من العطاء والمحبة.

وبناء على هذا فضل بولس أن يلبثوا غير متزوجين. وتكلم أن يتفق الزوجان أن يبتعدا عن العلاقة الزوجية التي بها جسدية الطفولة أكثر من نضج المحبة، ليتفرغا للصوم والصلاة (1كو 7 : 5)، فينموان معًا، ثم يجتمعا ثانية، لكي تقوى محبتهما بالتغذية في الصلاة والصوم، ويمتنع الغذاء عن الجسد الذي مازال لا يقوي أن تكون العلاقة الزوجية مجالاً لعمل الروح ومتسع أعماله نظرًا لطفولتهم.

ومن هنا جاء المبدأ “إِذاً مَنْ زَوَّجَ فَحَسَناً يَفْعَلُ وَمَنْ لاَ يُزَوِّجُ يَفْعَلُ أَحْسَنَ.” فهو بالحقيقة يناسب كل حديث للإيمان يحتاج أن ينضج قبل أن يتزوج، والإ أصبح الزواج “هم”  وتعب كما أشار بولس أيضًا، حيث أن الإنسان الحديث الإيمان يكون الزواج حسب فكر الله حملاً عليه، لا تستطيع طفولته أن تحتمله.

يتفق ذلك تمامًا مع كلامه أن الزواج لحديثي الايمان، أي الاطفال الروحين، أحسن من أن يتحرقا، وهو فكر إن أخذناه كمبدأ عام، سنجده يظهر الزواج وكأنه مكان نفرغ فيه نار الشهوة، وهو ما يتنافى مع قدسية السر ورؤية الله له من سفر التكوين. بينما في الطفولة، قد يكون ذلك واقع كثير من حديثي الإيمان الغير قادرين علي ضبط أنفسهم، ويكون الزواج أفضل إن كانوا لا يستطيعون أن يضبطوا أنفسهم.

ثم إختتم رسالته بكلامه عن المحبة، غذاء المولود داخلهم، لكي ينمو ويبطل ما للطفل. فيا ليتنا نفهم فكر الله وعمق غنى نعمته وكلمته، التي كنوزها وأعماقها تبهج قلب الصغير والكبير في الإيمان، حين يتعرفون علي ذلك الإله المحب، المتفهم لكل مرحلة من مراحل حياتنا.